بقلم /على رضوان حميد
منسق هيئة خبراء الانساب والدراسات القبلية
حين كانت الصحراء تمتد بلا حدود، وتتناثر القبائل العربية على أطرافها كنجوم متباعدة في ليل طويل، لم يكن يجمع بينها سوى الدم واللغة، ولا يحكم حركتها إلا السعي والضرورة. كانت القبيلة وطنًا متنقلًا، والسيف حارسًا، والرحلة قدرًا لا مفر منه. ثم أشرق فجر جديد، لم يحمل سيفًا فحسب، بل حمل فكرة، ولم يأتِ ليجمع الأرض وحدها، بل ليجمع القلوب قبلها. جاء الإسلام فبدّل مسار التاريخ، وصاغ من التفرق وحدة، ومن العصبية رسالة، ومن القبائل المتناثرة أمة تعرف طريقها وغايتها. ومن رحم هذا التحول العظيم، انطلقت القبائل العربية تحمل راية الفتح، لا طلبًا للغنيمة وحدها، بل إيمانًا برسالة آمنت بها القلوب قبل أن تخوض بها السيوف.
انتشرت القبائل العربية قبل الإسلام انتشارًا ابتدائيًا وفرديًا، كل قبيلة على حِدة، وحسب أهوائها وظروفها؛ فبعضها ارتحل سعيًا وراء الرزق، وبعضها ابتعد نتيجة معارك وتناحر مع قبائل أخرى، أو من أجل أهداف ومصالح خاصة بها. وكان هذا الانتشار عشوائيًا غير منظم، تحكمه الحاجة والظروف أكثر مما تحكمه رؤية موحَّدة أو غاية جامعة.
لكن مع بزوغ فجر الإسلام، وذيوع صيته في القرون الأولى من ظهوره، أدركت القبائل العربية سر شروق شمس هذا الدين الجديد، وما يحمله من رسالة توحيد وعدل وتنظيم للحياة. فسارعت القبائل العربية، كلٌّ بحسب موقعه واستعداده، إلى المشاركة في حملات الجهاد والفتح الإسلامي، وكان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عصر الدولة الأموية التي شهدت امتدادًا واسعًا للدولة الإسلامية، لتصبح القبائل العربية أحد الأعمدة الرئيسة للفتح الإسلامي، وحاملًا أساسيًا لرسالته.
ثم جاءت الدولة العباسية، التي تعمقت فيها وحدة القبائل العربية، حتى تكوَّنت جيوش منتظمة، قوية البنية، مزوَّدة بالعتاد العسكري، تدافع عن الإسلام، ومستعدة لخوض المعارك في شتى الميادين. وكان في صفوف هذه الجيوش فرسان لا يهابون الموت، ولا يخشون المجهول، مقاتلون ينتمون إلى مختلف قبائل العرب في الجزيرة العربية، وبرغم اختلاف أصولهم وأنسابهم، فإنهم كانوا وحدة واحدة أثناء خوض معاركهم، تجمعهم العقيدة ويشدهم الهدف.
وقد شهد عصر الخلفاء الراشدين انطلاقة حقيقية لوحدة القبائل العربية في إطار الفتوحات الإسلامية، وكان ذلك خارج حدود الجزيرة العربية، بعد أن تم دمج العرب المسلمين عقب حروب الردة. ومنذ ذلك الحين توحَّدت الجيوش، معتمدة على الله في عقيدتها، متمسكة بدينها الحنيف، ومتجهة لفتح العديد من البلاد، فكانت العراق وبلاد فارس والشام ومصر من أوائل الأقاليم التي شهدت هذه الفتوحات، وشاركت فيها قبائل عربية عديدة، جميعها متوكلة على الله الواحد الأحد.
وشاركت في هذه الفتوحات القبائل العدنانية، مثل مضر وقيس عيلان، وكان لها دور بارز في تكوين جيوش الخلافة. كما انضمت قبيلة تميم المضرية، التي ضمَّت عددًا كبيرًا من الفرسان الأقوياء، المشهود لهم بالشدة والبأس والحكمة، وكان لهم أثر واضح في فتح العراق وبلاد فارس. ومن أشهر هؤلاء الفرسان القعقاع بن عمرو، الذي كان له دور بارز في معركتي اليرموك والقادسية.
كما شاركت قبيلة أسد في هذه الفتوحات، وكان قائدها طليحة الأسدي، بعد توبته واعتناقه الدين الإسلامي، من القادة المشاركين في معركة القادسية. وانضمت كذلك القبائل القيسية، مثل غطفان وسليم وهُبَس وأشجع، التي دخلت تحت راية الإسلام بعد حروب الردة، وأسهمت في دعم الجيوش الإسلامية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شاركت أيضًا قبائل كنانة القرشية، والقبائل القحطانية، وقبائل الأزد اليمنية، وقبائل مذحج اليمنية، إلى جانب الأوس والخزرج، قبائل الأنصار، الذين كان لهم دور عظيم في نصرة الإسلام منذ بداياته. وبرز من بينهم قادة عظام، مثل محمد بن مسلمة الخزرجي، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، كما انضم إلى هذه الجيوش آلاف من أبناء البادية.
وهكذا، وبوحدة العقيدة وتماسك الصفوف، تحققت الانتصارات الأولى للفتوحات الإسلامية، وامتد نفوذ الدولة الإسلامية، حاملاً معه رسالة الإسلام إلى آفاق جديدة، بجهود القبائل العربية التي وحَّدها الدين بعد أن فرَّقتها العصبية.



