« الصبيان أولهم خوخ ورمان… تانيهم حنضل وقطران… تالتهم عدوين وجيران »
في ذاكرة المجتمعات العربية تنبض الأمثال الشعبية كأنها سجلات مفتوحة لخبرات الأجداد، تلخّص الحياة في كلمات قليلة، لكنها عميقة، صادقة، ومفعمة بالمعاني. ومن بين هذه الأمثال اللافتة التي تتناول مراحل تطور شخصية الذكور، يبرز المثل الشعبي:
«الصبيان أولهم خوخ ورمان… تانيهم حنضل وقطران… تالتهم عدوين وجيران»
وهو مثل شديد الاختصار، لكنه محمّل بثقافة كاملة عن نظرة المجتمع لتنشئة الأولاد وتحولاتهم عبر العمر.
أولًا: معنى المثل الشعبي
يقسّم المثل مراحل الذكور إلى ثلاث محطات رئيسية:
١- «أولهم خوخ ورمان» – مرحلة البراءة والنعومة
يشبّه المثل الأطفال الذكور بالفاكهة: الخوخ والرمان، رمزَي الحلاوة والمرح والنقاء.
في هذه المرحلة يكون الصبي محبوبًا، لطيفًا، مطيعًا، محور اهتمام الأسرة، يتلقى الدلال والاحتواء دون مسؤوليات تُذكر.
٢- «تانيهم حنضل وقطران» – مرحلة المراهقة وتقلباتها
ينتقل الصبي فجأة إلى مرحلة الحنظل والقطران؛ وهما رمزان للمرارة والمشاكل.
هذه هي مرحلة المراهقة بما تحمله من تمرد، وعناد، وتقلبات مزاجية، وتحديات تربوية تعصف بالبيت. يرى المجتمع هذه الفترة كأشد المراحل صعوبة على الأسرة، إذ تتطلب صبرًا وحكمة وقدرة على الاحتواء.
٣- «تالتهم عدوين وجيران» – مرحلة الزواج والصراع التقليدي
عند زواج الابن، يقول المثل إن العلاقة بينه وبين أهله—وخاصة أمه—قد تتحول إلى ما يشبه علاقة العداوة أو الجيرة.
يصور المثل حالة تصادم شائعة في بعض البيوت، حين يقع الابن بين ضغوط زوجته ومتطلبات أمه، فيميل إلى زوجته ويهمل والدته، فتصبح العلاقة شبيهة بعلاقة “جار” لا يسأل كثيرًا ولا يزور إلا قليلًا.
ثانيًا: تاريخ المثل وجذوره الثقافية
هذا المثل ينتمي إلى البيئة الريفية العربية التي كانت تنظر إلى الذكور نظرة خاصة:
فهم امتداد للعائلة وسندها.
وهم أيضًا مصدر قلق ومسؤولية تربوية كبيرة.
يبدو أن المثل نشأ من تجارب متوارثة، حيث لاحظ الآباء والأمهات هذه التحولات الثلاث عبر أجيال متتابعة. لذلك جاء التعبير بصيغة التدرّج، من الحلاوة إلى المرارة ثم إلى البُعد، ليختصر رحلة طويلة في ثلاث جُمل فقط.
ثالثًا: أمثال مشابهة تدعم الفكرة
هناك أمثال عربية كثيرة تتناول تقلبات الذكور ومراحل نموهم، منها:
«ولد الولد ولد، وبنت البنت بنت»
يعبّر عن الرغبة التقليدية في استمرار النسب عبر الذكور.
«يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات»
وهو مثل يحمل نظرة اجتماعية تفضّل الذكور، لكنه يعبّر عن مخاوف المسؤولية تجاه البنات.
«كَبِّر ابنك يكبّرك»
يشير إلى أن كبر الابن يعني زيادة المسؤولية ومتطلبات التربية.
«الولد ولدك لو صار ملاك، والزوجة زوجة ابنك لو صارت هلاك»
يلامس التصادم بين أم الزوج والزوجة، كما في المثل موضوع المقال.
هذه الأمثال تعكس ذات الفكرة: الولد ليس مسيرة واحدة، بل مراحل متناقضة تُرهق الأسرة وتختبر صبرها.
رابعًا: أمثال مضادة تُوازن الصورة
في المقابل، هناك أمثال تعطي نظرة أكثر إيجابية، مثل:
«الولد سرّ أبيه»
«من ربّى ولده نجا»
«الولد الصالح حياة جديدة لأهله»
هذه الأمثال تؤكد أن التربية الجيدة تصنع فارقًا، وأن الولد قد يكون مصدر فخر لا مصدر متاعب.
خامسًا: تأثير المثل الشعبي على الناس
الأمثال ليست مجرد كلمات تُقال؛ بل هي مرآة للمجتمع وقوة موجهة للسلوك.
والمثل موضوع المقال أثّر في الناس عبر عدة مسارات:
١- تكوين توقعات مسبقة
الأمهات يدخلن مراحل تربية الأبناء وهنّ يحملن هذا المثل، فيتوقعن:
الحلاوة في البداية
ثم “وجع الدماغ” في المراهقة
ثم الابتعاد عند الزواج
هذا قد يجعل الأم تتعامل مع الابن بحذر أو خوف من المستقبل.
٢- تعزيز النظرة السلبية للمراهقة
المثل يرسّخ فكرة أن المراهق «حنظل وقطران»، مما يخلق نظرة متشائمة بدلًا من رؤية هذه المرحلة كفرصة لبناء شخصية قوية.
٣- تكريس الصراع بين الأم والزوجة
يُعيد المثل إنتاج صورة اجتماعية شائعة بأن الزوجة تسحب الابن بعيدًا عن أمه.
ومع تكرار المثل، يصبح السلوك المتوقع حقيقة، حتى وإن لم يكن ضروريًا.
٤- دور الموروث في تشكيل السلوك
حين يُقال المثل عشرات المرات داخل البيوت، تصبح صورته جزءًا من اللاوعي الجمعي، فتُعامل الأمهات أبناءهن وفق ما رسخه المثل، ويعامل الأبناء أمهاتهم وفق ما تربوا على سماعه.
سادسًا: قراءة حديثة للمثل
في عصر اليوم، يمكننا إعادة قراءة هذا المثل بطريقة أكثر واقعية:
مرحلة الطفولة جميلة، نعم، لكنها تحتاج تربية جادة.
مرحلة المراهقة ليست «حنظلًا» إلا إذا غابت الحكمة والاحتواء.
مرحلة الزواج لا يجب أن تصنع عداء، بل يمكن أن تبني علاقة ناضجة تجمع الأم والزوجة معًا.
المثل غني وجميل، لكنه ليس قدرًا حتميًا، بل وصفًا اجتماعيًا لتجارب عاشتها أجيال سابقة، ويمكن للأجيال الجديدة تجاوزها بحسن التواصل والتربية القائمة على الوعي.
خاتمة
المثل الشعبي «الصبيان أولهم خوخ ورمان… تانيهم حنضل وقطران… تالتهم عدوين وجيران» ليس مجرد كلمات، بل شهادة على تاريخ طويل من التجارب الإنسانية داخل الأسرة العربية. وهو يفتح بابًا واسعًا لفهم التحولات النفسية والاجتماعية التي يمر بها الذكور عبر حياتهم. وبينما يحفظ المثل حكمة الأجداد، فإن إعادة قراءته بعيون العصر تجعلنا نرى أن التربية الواعية قادرة على تحويل «الحنظل» إلى خبرة، و«القطران» إلى صبر، والعداوة إلى محبة ممتدة بين الأجيال.



