الإثنين, نوفمبر 10, 2025
spot_imgspot_imgspot_imgspot_img
الرئيسيةرأىد. أميرة المهدي تكتب| حكاية أم صنعت المستحيل

د. أميرة المهدي تكتب| حكاية أم صنعت المستحيل

أنا أم أراد لها القدر أن تعيش حياة استثنائية وتحمل رسالة قد تبدو مستحيلة، ولكنى أشعر بقوة سحرية أستمدها من إبنى جوهر الرسالة التى أعيش بها ولها منذ أن رزقت به طفلا متوحدا وفى توحده تفرد أشقى به وأسعد به أيضا.

فكرت أن أسجل رحلتى معه في يوم هو الدهر صبرا وكفاحا، حتى يبدو المشهد رائعا ولكن ما الذى يمكن أن يكون وراء هذه اللقطة؟

بدت الصورة التى فى خيالى في غاية الجمال، ابتسامة خفيفة، ضوء الصباح المتسلل عبر النافذة، وولدٌ يستعد لأول امتحاناته في كلية الهندسة.
لكن ما وراء تلك اللقطة… عالمٌ لا تراه العيون.

ابني – ذاك البطل الصغير – يبدأ رحلته اليوم، بفضل الله، رغم التوحّد.
ورغم أن الكاميرا التقطت لحظة فرحٍ خالصة، إلا أن قلبي كان يعلم أنّ ما سبقها لم يكن يسيرًا فكلّ صباحٍ عندنا ملحمة صغيرة تبدأ بنداءٍ خافتٍ يسبق المنبّه
“يا رب قوّني…”

يظنّ البعض أن المشهد يتكرر، وأن التكرار يجلب السهولة، لكنه في بيتنا مختلف؛ فكل يومٍ هو نسخة جديدة من التحدّي، وكل صباحٍ يحمل وجعًا جديدًا في ثوبٍ مألوف.

أنا أمٌّ لطفلٍ من أطفال التوحّد، أعلم أني بطلة، لكن من دون عباءة خارقة، وبلا تصفيقٍ أو أضواء. بطولتي تُقاس بعدد المرات التي لم أنهار فيها، وبالابتسامات التي اخترعتُها كي لا يراها حزني.

حين يتهيأ العالم لبداية يومٍ عادي، نبدأ نحن مرحلة الاستعداد للدوام الدراسي.
ليست عملية إيقاظٍ بسيطة، بل خطة إنقاذٍ بخمس مراحل، فيها مفاوضات، ومحاولات، ودموع صغيرة تختبئ في زوايا القلب.
أحيانًا أشعر أني أُحاور ذاكرة السمكة “اليوم عندك امتحان يا حبيبي.”
فيتساءل بنظرةٍ بريئة “امتحان؟ من أين أتى؟ ولماذا أنا؟”

ثم تبدأ معركة الحمّام؛ لجنة استشارية تُراجع درجة حرارة الماء، ونوع الشامبو، وشكل الليفة، وحتى توزيع الفقاعات! كل شيء يجب أن يكون في موضعه تمامًا، وإلا اضطرب العالم من حوله.

ثم ننتقل إلى مرحلة اللباس: تحقيقٌ مصغّر في اختيار الألوان، وتبريراتٌ حول سبب ارتداء القميص لا التيشيرت.
ولا يكتمل اليوم دون السيشوار، حتى وإن لم يبقَ في الرأس سوى خصلاتٍ قصيرة، فالمهم هو الطقس والروتين، لأن أيّ خللٍ فيه يعني يومًا صعبًا لا يُطاق.

عندما نظنّ أن المعركة انتهت، تبدأ حكاية النقل:
سيارة الأجرة.
لو تأخر السائق، فالعاصفة قادمة.
لو ألغى الرحلة، فالكارثة محقّقة.
ولو حضر في الموعد؟ فذاك كرمٌ إلهيّ يستحقّ سجدة شكر.

كل ثانيةٍ في هذا الطريق تحمل خوفًا، وكل ضحكةٍ صغيرة هي نصرٌ عظيم.
لسنا في سباقٍ مع أحد، نحن فقط نحاول أن نحيا يومًا عاديًا… عاديًا فحسب.

غادر السيارة بخطواتٍ مترددة، يحمل حقيبته على كتفه كما لو كانت درعًا صغيرة تحميه من ضجيج العالم.
نظرتُ إليه وهو يتجه إلى لجنة الإمتحان بالكلية، يبتعد شيئًا فشيئًا، يتلفت حوله كمن يودّع الأمان الذي يرافقه كل صباح.
شعرتُ أن قلبي قد غادر معي، وبقي جسدي وحده على المقعد، أنتبه لمقدم أستاذ بالجامعة يتجه نحو اللجنة يبدى ضيقه من وجود طالب متوحد. يخشى أن يعكر هذا صفو اليوم، ثم تبدأ مرحلة الانتظار…
انتظارٌ يختلف عن كل انتظار،
إنه انتظار أمٍّ لا تعرف كيف سيكون حال ابنها بين الجدران الغريبة والوجوه المزدحمة والأصوات العالية.
هل وجد مقعده بسهولة؟
هل أحسن الإجابة؟
هل شعر بالأمان؟

تظلّ هذه الأسئلة تتقافز في رأسي كأمواجٍ لا تهدأ.
كل دقيقة تمرّ ببطءٍ مؤلم، كأن عقارب الساعة تسخر من لهفتي.
أراقب باب الكلية كمن ينتظر معجزة، أتابع الوجوه الخارجة، ألتقط نظرات العابرين، وكل مرة أظنه هو، ثم أبتسم لنفسي وأقول: “ليس بعد، اصبري قليلًا.”

أفتح هاتفي، أُمسك صورةً له التُقطت في صباحٍ هادئ، وهو يضحك تلك الضحكة التي لا تشبه أحدًا، فأستمدّ منها طمأنينة مؤقتة.
ثم أعود إلى صمتي، إلى المراوحة بين الدعاء والرجاء.
كل أمٍّ تنتظر نجاح ابنها، أما أنا فأتمنى فقط أن يعود من دون توتر، أن يخرج مبتسمًا، أن يكون بخير… بخيرٍ لا أكثر.

وحين أراه أخيرًا يخرج، تسبقني دمعة لا أملكها، كان الأستاذ الجامعى الغاضب يقف خلفه مبتسما يربت على كتفه ورأيته يمشي نحوي بخطواتٍ واثقة هذه المرة، لا يحمل فرحًا صاخبًا، لكن في عينيه بريق راحةٍ صغيرة، وكأن معركة داخلية انتهت بسلام.
أسأله بخفوت:
“عامل إيه يا حبيبي؟”
فيردّ بجملته المعتادة:
“تمام… خلصت.”

كلمتان بسيطتان، لكن خلفهما جبال من الجهد، وأودية من القلق، وصبرٌ طويل.
أمسك يده وأقود خطانا إلى السيارة، وكأنني أعود به من ساحة حربٍ ناعمة لا يراها أحد.
خلال الطريق، يحدّثني عن الأسئلة التي أحبّها، وعن الزميل الذي جلس بجانبه، وعن الورقة التي كادت تضيع، ثم يقول فجأة:
“ماما، كنتِ بتدعيلي؟”
فأبتسم، وأجيبه:
“من قبل ما تصحى وأنا بدعي.”

فيعود إلى صمته، يفتح النافذة قليلًا، يترك الهواء يلمس وجهه، بينما أترك قلبي يهدأ أخيرًا.

وحين نصل إلى البيت، أخلع عن كتفيّ عبء الساعات الماضية، وأتنفس كأنني نجوتُ من رحلةٍ طويلة.
أضع حقيبته جانبًا، وأراقبه من بعيد وهو يبدّل ملابسه، ويجلس بهدوء أمام طعامه المفضّل.
أقترب منه وأمرّر يدي على شعره القصير الذي جففته صباحًا بنفس العناية، وأقول في نفسي:
“اللهم لك الحمد… يومٌ آخر مرّ بسلام.”

قد يراه الناس مشهدًا عاديًا، لكنه عندي بطولة يومية، ونعمة لا تُقاس.
فكل امتحان يمرّ دون دموعٍ أو نوبات قلق هو نصرٌ مؤجل، وكل ضحكةٍ منه هي وعدٌ من السماء أن الغد أجمل.

وفي المساء، حين ينام، أجلس بجانبه أستمع إلى أنفاسه الهادئة، وأقول لنفسي:
“لو علم العالم كم يكلّف هذا الهدوء، لصفّق لي كلّ يوم.”

ثم أرفع بصري إلى الله وأهمس:
“يا رب، مدّ في عمري ما دام يحتاج يدي، واحفظه بعيونك التي لا تنام.. امنحني عمرًا يكفي لأطمئنّ عليه.”

جلستُ في الصالة أراقب ظلال المصباح تتراقص على الجدار، كأنها تروي قصة النهار من جديد.

كل لحظة مرت اليوم تمر أمامي كفيلمٍ صامت، لحظة الإيقاظ، المفاوضات الصغيرة، الخوف حين أغلق باب الكلية خلفه، أستاذ الجامعة وضيقه من إبنى، وسعادته وحنانه عليه فى آخر الإمتحان، والدعاء الذي لم يتوقف منذ الفجر حتى غروب الشمس.
أستعيدها واحدة تلو الأخرى، لا لأبكي، بل لأحمد الله على أني مازلت قادرة.

أحيانًا أشعر أنني أمشي في طريقٍ لا نهاية له، لكنه طريقٌ مفروش بالرحمة.
أتعلم الصبر من عينيه، وأتعلّم الرضا من صمته، وأتعلم القوة من ضعفي أمام ابتسامته.

أمسك دفتري القديم، ذلك الذي أخفيه في درجٍ بعيد، وأكتب فيه حين يثقل الكلام على لساني.
أفتح صفحته البيضاء وأكتب “اللهم لك الحمد على النعمة التي علمتني أن البطولة ليست في الوصول، بل في الاستمرار.
على الابن الذي جعلني أرى الحياة بعينٍ أخرى، لا تبحث عن الكمال، بل عن الطمأنينة.
على كل صباحٍ يبدأ بالصبر، وكل مساءٍ ينتهي بالسلام.
اللهم كما جعلتَ قلبي ملاذًا له، اجعل رحمتك ملاذًا لنا معًا.”

أغلق الدفتر وأتنهد بعمق،
أعرف أن الغد سيحمل تحديًا جديدًا، وربما دموعًا جديدة، وربما قلقًا آخر،
لكن بداخلي يقين لا يتزعزع أني لست وحدي…
فالله الذي رآني وأنا أقاوم الصباح، لن يتركني عند المساء.

أنظر إلى وجهه النائم بعد قليل، هادئ كالملاك، فأمدّ يدي لأعدّل غطاءه وأهمس “نم يا صغيري، فغدك أجمل بإذن الله،
ونومي أنا مؤجل إلى أن أطمئنّ عليك إلى آخر العمر.” ثم أطفئ النور، وأترك قلبي ساهرًا في حراسة الحلم.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات