في المشهد السياسي الراهن، يقف العراق كرقعة شطرنج مفتوحة في قلب شرق أوسط لا يهدأ. تَصطخب داخليًا أزماتٌ بنيوية، وتتنازع خارجيًا إرادات متصارعة تتجاوز حدوده. فبين مؤسسات شبه مشلولة، وساحة إقليمية مضطربة، وعودة ترامب إلى البيت الأبيض، تُعاد صياغة قواعد اللعبة، ويتخذ العراق موقعه، طوعًا أو كرهًا، داخل معادلة كبرى لا يملك دائمًا مفاتيحها.
• الداخل العراقي: دولة تُدار بالأزمات لا عبرها:
لم تعد الأزمة في العراق حدثًا طارئًا بل أصبحت جزءًا من البنية السياسية اليومية. الدولة التي قامت على توازنات هشّة بعد 2003، تبدو اليوم عالقة في مأزق فقدان المعنى السياسي: سلطة مشوشة، اقتصاد ريعي مستنزَف، مجتمع شاب محبط ومهمّش. السلطة عاجزة عن احتواء الغضب الشعبي، والمعارضة عاجزة عن تنظيمه، فيما تغيب الرؤية وتتكاثر أدوات التسويف.
• الإقليم المضطرب: حرائق بالجملة ومصالح متقاطعة:
الشرق الأوسط لا يهدأ. من غزة إلى صنعاء، من دمشق إلى بيروت، تشتعل الجبهات بالنيابة. وكل نار مشتعلة تعني اشتباكًا جديدًا في حسابات القوى الكبرى. تركيا تعيد تموضعها، السعودية توازن بين الانفتاح والهيبة، وإيران تُمسك بعدة خيوط في وقت واحد، بينما إسرائيل تستثمر في لحظة التوتر وتعيد ضبط تحالفاتها. وفي هذا الفلك المتشابك، يجد العراق نفسه أحيانًا ساحة، وأحيانًا ورقة، ونادرًا ما يكون لاعبًا.
• إيران وأمريكا: مفاوضات تُدار بالنار لا بالحبر:
عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في واشنطن قلبت الطاولة من جديد. لا حوار دون شروط، ولا تهدئة بلا مقابل، هكذا تُدار العلاقة بين واشنطن وطهران. إيران، المثقلة بالعقوبات والمُحاصَرة إقليميًا، لا تزال تقاتل لتبقى رقماً صعباً. تُفاوض من جهة، وتُناور عبر وكلائها من جهة أخرى. أما الولايات المتحدة، فهي ترفع سقف التصعيد بينما تُبقي على قنوات خلفية مفتوحة. المشهد يُدار بتكتيك لا باستراتيجية، والاتفاق أقرب إلى هدنة مؤقتة منه إلى تسوية حقيقية.
• الملف النووي: توازن الرعب على مفترق النار:
البرنامج النووي الإيراني لم يعد مجرد وسيلة ردع، بل تحوّل إلى أداة سياسية متعددة الاستخدامات: تفاوضية حينًا، واستفزازية حينًا آخر. إنه ليس ورقة ضغط فقط، بل هو عنوان لشرعية النظام داخليًا، وإثبات للندية أمام الغرب خارجيًا. التصعيد العسكري الذي تُلوّح به واشنطن، لا يُقابل بتراجع إيراني، بل بتكتيكات محسوبة تزيد من عتبة التوتر دون أن تنفجر. كل قصف يُغذّي سردية “المظلومية المقاومة”، وكل عقوبة تُعزّز خطاب التحدي. في هذا السياق، لا يبدو أن المفاوضات تهدف لتفكيك البرنامج بقدر ما تسعى إلى ضبط إيقاعه، لتبقى إيران في حالة “قوة مزعجة” لا يُسمح لها بالانفجار… لكن لا يُسمح أيضًا بإطفائها.
• في لحظة تاريخية: 9 أبريل/نيسان بين السقوط والانهيار:
في مثل هذا اليوم، 9 نيسان، سقط نظام صدام حسين تحت ضربات الغزو الأمريكي عام 2003، لتُفتح صفحة جديدة في تاريخ العراق، لكنها لم تكن بداية عهد ديمقراطي كما رُوّج، بل كانت شرارة حقبة فوضوية أتت على ما تبقّى من الدولة. نظام استبدادي انتهى، لكن ما أعقبه كان نظامًا فاسدًا ممزقًا، تقاسمته قوى ما بعد الاحتلال على قاعدة المحاصصة والغنيمة. منذ ذلك اليوم، والعراق يعيش انتقالاً مستمرًا من أزمة إلى أخرى، دون أن يمر بمحطة بناء حقيقي. ولعلّ المأساة الأكبر أن أمل التغيير ظلّ مؤجَّلاً، فيما يتكرّس كل يوم شكل جديد من اللاعدالة باسم الديمقراطية.
• زاوية الرؤية:
العراق، في صورته الراهنة، ليس مجرّد ضحية لصراعات الآخرين، بل هو أيضًا نتاج عجزه عن إنتاج مشروع وطني متماسك. الزمن السياسي يتحرك من حوله، والفرص تمرّ أمامه، لكنّ من يمسكون بخيوطه في الداخل مشغولون بإدارة النفوذ لا ببناء الدولة. وفي عالم تتغير خرائطه على وقع الانفجارات، من لا يرسم موقعه، يُرسم له.
-
باحثة في الشأن السياسي – العراق