الأربعاء, أبريل 16, 2025
spot_imgspot_imgspot_imgspot_img
الرئيسيةأدبقصة قصيرة: من حكايات القطار .. الأم وابنتها

قصة قصيرة: من حكايات القطار .. الأم وابنتها

alekhbary.com 2EqHtcRu

  يكتبها: حسين السيد

الحياة ملأى بالمآسى والفواجع والنكبات، وكل من ظن أو اعتقد بأنه لا توجد مشكلة مثل مشكلته فهو واهم ومخطئ، ليست له دراية بأمور الحياة، وأنه لا خبرة له. وكثيرا ما استمعت إلى مثل هذا اللون من الحديث وأنا مستقلٌّ القطار سواء فى الذهاب إلى القاهرة أو فى العودة منها إلى القرية، يساعدنى على هذا طول وقت الرحلة، فربما تستغرق أكثر من ساعتين، وتعجبت لصبر هؤلاء المتحدثين على مآسيهم، ورضائهم التام والتسليم والإذعان لأمر الله وقضائه. وهذا ما جعلنى أصبر على متاعب الحياة، والتسليم بأن همى بالنسبة إلى الآخرين لا يساوى شيئا.

ومن هذا الضرب، كان حديثُ سيدةٍ أوشكت أن تودع الأربعينيات واقتربت من بداية الخمسينيات، تحدثت والدموع لم تفارق عينيها قط، لم تكن تتحدث إلىَّ، وإنما وجهت حديثها إلى الرجل الذى كان يجلس إلى جانبى، رجل مثلها فى بؤسها، يقاسمها الغلب والشقاء، يحتاج إلى من يربت على كتفه ويأخذ بيده، وربما يكون هو الأكثر احتياجا إلى الشفقة والعطف والرثاء لحاله. ورغم هذا كان الرجل رزينا هادئا قويا صلدا، فكفكف دموعها وطيب خاطرها وهدَّأ من روعها، فاستكانت السيدة، وراحت فى نوم عميق بعد أن غطت نفسها بشال أسود طويل ستر كل جسدها المتكور.

وبعد مرور محطة أو محطتين، التفت إلىَّ الرجل، وسألنى: هل أنت محام؟ فأجبت: لا.  فقال: هذه السيدة التى تراها هى شقيقتى الكبرى، وأنا ذاهب بها إلى مستشفى قصر العينى لمتابعة علاجها، وسأحكى لك قصتها، بغية أن تبحث معى عن حل لمشكلتها، فأراك رجلا صالحا، أو هكذا يبدو لى.

واسترجع الرجل شريط الذكريات، يتحدث وكأنه يقرأ من كتاب كله أسى وحزن وحسرة على ما فات، فقال:

منذ سنوات بعيدة، تقدم رجل إلى أسرتنا طالبا الاقتران بشقيقتى، وكنت حينها صغيرا إلى الدرجة التى لا تسمح لى بإبداء الرأى، فلم أستطع أن أكوِّن رأيا حول هذا الزوج، هل يصلح لأختى أم لا، لهذا لم يؤخذ برأيى. وبعد فترة قصيرة من الخطوبة تم الزواج، ومن وقت لآخر كنا نزورها فى شقتها المستأجرة، فلم يكن لديه بيت يملكه، وهذا وضع غريب فى الريف أو قل شاذ؛ لأن أغلب سكان الريف أو جميعهم لديهم بيوت يملكونها، ويخصصون لكل ابن حجرة فى البيت، وبعد ذلك خصصوا طابقا، لكن هذا لم يمنع من إتمام مراسم الزواج.

فى كل مرة نزورها، كنا نراها حزينة وساهمة ومهمومة، ويبدو عليها التعب وكأنها تعمل طوال النهار فى مصنع أو حقل أو تنظيف البيوت أو خلافه، وزوجها نشيط ومهتم بنظافة ملبسه وبصحته وكأنه لم يبرح بيته، فسألناها عن حالها، ولماذا هى متعبة دائما فى كل مرة نزورها، فقالت إن زوجها لا يحب العمل، وسألها أن تهتم بإطعام نفسها فقط، أما هو فيمكنه تدبير أمره. وأخبرته كيف يقبل على نفسه هذا؟ ماذا تفعل لتنفق على نفسها؟ ماذا تقول لأهلها؟ هل تطلب منهم أن يعيلوها؟ فى بداية الأمر لم تتقبل هذا الوضع الغريب، لهذا كان يدخل معها فى عراك دائم؛ حيث تطالبه بالعمل للإنفاق على بيتها الصغير خاصة أنهما رزقا بطفلة واحدة.

ولما كان لا يريد العمل ولا يريد الإنفاق، ولا تريد أن تخبر أسرتها أو أسرته حتى لا تتفاقم المشكلات، فقد بحثت هى عن العمل، لتنفق عليه وتدفع الإيجار وتنفق على طفلتها الرضيعة. باختصار هى من تعمل لتحافظ على أسرتها الصغيرة، واستطاعت أن تعبر بها إلى بر الأمان بفضل شقائها وكدها وتعبها، لكنه لم يتركها فى حالها، فقد كان يفتعل الأزمات معها باستمرار، حتى إنه شك فى سلوكها ليجعلها تغضب وهو يعلم كل العلم أنها طاهرة الذيل، وأنها من بيت عريق، وأنها تستطيع أن تحافظ على نفسها حتى لو كانت وحدها وسط مئة رجل، كيف تفعل هذا وهى من تحفظ كتاب الله؟!

تدخلنا نحن أسرتها، بعد معرفتنا بعدم عمله، لنصلح من حاله، خاصة أننا نعيش فى الريف، وأنت تعلم أن الريف له تقاليده وعاداته وأعرافه وسننه، ومن هذه الأعراف أن الرجل إذا كان بصحة جيدة، وقلتُ ولو كان مريضا، هو الذى يتولى الإنفاق على بيته. وكدنا ننتهى على حل وهو الفراق بينهما، فقد خُدْعنا فيه، ولا نريد لابنتنا أن تستمر مع شخص يعيش عالة على زوجته، لكنها هى التى أصرت على استمرار الزواج، وهى التى أقنعتنا بأنها من ستتولى إصلاح حاله وتغييره إلى الأفضل، ودافعت عنه بكل قوة رغم معارضتنا الشديدة، حتى إننا خيرناها بينه وبيننا، فاختارته على أمل أن يتغير خاصة بعد إنجابه طفلة. ولما رأى تمسكها به إلى هذه الدرجة أرغمها على أن تتولى الإنفاق عليه أيضا، ورضيت والألم يعتصرها.

أنت تعرف أن أبغضَ كلمة عندنا فى الريف هى كلمة الطلاق، ولم تكن شقيقتى تريد أن تكون مطلقة ولم يمض على زواجها عدة شهور، فقد خشيت من ألسنة الجيران أن يتغامزوها بكلمة سوء، وأن العيب يكمن فيها هى لا من زوجها المتعطل، كما خشيت أن تتزوج رجلا يكبرها فى السن، أو تكون زوجة ثانية مثلا، أو، أو..

رضيت أن تعمل بينما زوجها يجلس فى البيت، وأنجبت بنتا فى غاية البراءة كما قلت لك، وتحملت ما لا يتحمله أحد، أرادت أن تعيش فى أمان وسكينة وطمأنينة لكنها افتقدتها وعاشت فى قلق وخوف وذعر.

ومرت الأيام وتتابعت السنوات، وكبرت الطفلة التى ملأت عليها حياتها، وتفوقت فى دراستها، حتى إنها حازت الدرجات النهائية فى الشهادتين الابتدائية والإعدادية، وهنا تدخل الأب ليقرر أن تكتفى ابنته بالمقدار الذى حصلته من التعليم، وبكت الابنة لكونها محبة للعلم، وتريد أن تواصل دراساته، وقد تنبأ جميع مدرسيها بمستقبل مشرق لها، وتدخلت الأم كالعادة، وقالت إنها ملتزمة بها، وملتزمة به أيضا ولن تنقص مليما واحدا من مصروفه، وملتزمة بسداد إيجار الشقة، وملتزمة بنفقة البيت. وهنا بكى الرجل وقال: لك الله يا شقيقتى! لقد زادت الأعباء عليها، ولم تأت يوما إلى بيتنا لتطلب المساعدة.

وواصل الرجل حديثه، وأنا قد تأثرت بها إلى درجة الانفعال، وقال: كانت تعود من عملها مرهقة، تريد أن تستريح لتواصل أعمال المنزل، لكنه لم يعطها الفرصة لتهنأ بهذه الراحة، فيظل يسألها: أين كنتِ؟ ومع من تحدثتِ؟ وأسئلة من هذا القبيل، فيتعارك معها إذا طالبته بأن تنام قليلا.. ويحدث هذا الشجار كل يوم، حتى إن الابنة تألمت وضجرت من هذا الحوار العقيم، فينهال عليها ضربا وشتما، وتحول البيت إلى مكان لا يطاق العيش به، فأصبحت تقضى أغلب وقتها خارجه، لكيلا ترى أباها يوسع أمها ويوسعها هى أيضا ضربا وشتما كما قلت لك.

أخيرا، أنهت الابنة تعليمها الثانوى، ولكن مجموعها لم يؤهلها للالتحاق بكليتى الطب أو الصيدلة، ودخلت كلية العلوم، وكانت درجتها هى أعلى درجة حصل عليها طالب أو طالبة فى القرية. ومع هذا كانت تبكى بحرقة وكأنها لم تنجح أصلا، وفرحت أمها بنجاحها فرحا شديدا، فهى التى تعبت وأنفقت وأصرت على أن تستكمل تعليمها حتى لو كان ذلك على حساب صحتها، واستغربت من بكاء ابنتها الشديد، أما الأب فلم يكن مهتما بنجاحها أو حتى بتعليمها.

وهنا تبدأ مأساة الابنة الحقيقية، فقد أرادت أن تنتشل أمها مما هى فيه من شقاء وبؤس وضيق، لكنها دخلت فيه بغير إرادة منها، وأصبحت نسخة مكررة من أمها، قلت: كيف ذاك؟ قال: دخلت الابنة كلية العلوم وهى محطمة، ورأت أنها قد خذلت أمها، وهذا الخذلان لم يكن بسببها هى وحدها، وإنما الأب هو الأساس فى هذا، فلم يكن داعما ومؤيدا وناصرا لها.

ورأت الابنة أن تريح أمها من أعباء المصاريف الملقاة على كاهلها وحدها، خاصة أنها أصيبت بعدة أمراض، وأن كلية العلوم لا فائدة منها، هكذا كانت تتصور، ومن الأفضل لها ألا تكمل تعليمها، وأن تتزوج وتبعد عن هذا البيت الملىء بالغم والنكد والحزن. لقد كرهت الفتاة البيت، وكرهت أباها ولم تعد تطيقه، وقررت أن تريح أمها بعدم مواصلة التعليم وبالزواج أيضا، وأنها ستوافق على أى شاب يتقدم لها، فأهملت دراستها، ولم تعد تنتظم فى حضور المحاضرات، فكل يوم يعنى تكلفة على أمها المريضة الآن. وهنا يظهر شاب فى حياتها أكبر منها باثنتى عشرة سنة، لتكون القشة التى قصمت ظهر البعير.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات