أظن أن ذاكرة العقل أبقى من الجسد، ولحن الدانوب الأزرق سيظل وفيًّا لقلوبنا، أما رقص ذكرياتنا فلن يمحو آثارها زعزعان الزمان. عقولنا نشطة جياشة عندما لا يفارقها هجير الذكرى، ذكرياتٌ أكل الدهرعليها وشرب لكن تظل مؤثرة لما تحمله من لحظات جميلة مؤلمة, فتمر علينا كضاربة الودَع تنادي في قلوبنا يا هذا أما زلتَ تذكر طيفي !، أنوفنا حساسة كقلوبنا، قد تشتم رائحة تذكرك بماضٍ يربطك برائحة مماثلة فتفترش شذرات عبير الذكرى لتفند عقلك وتلقيه أمام ورقة تحمل مفهوم التاروت. \” حياة تهوي وأخرى تبرز، كلاهما مختلفان بالنسبة للفانين لكنهما هما نفس الشئ بالنسبة للخالدين، لذلك نرى تكرارًا في الشخصيات مرة بعد أخرى فتتبدل الأسماء والألقاب مع مرور الزمن لكن الشخصيات ذاتها تبقى دون تغيير للأبد\” . تظل شخصيات ذكرياتنا كما هي، ونظل نحن أوفياء في زيارة مقابرنا، تؤذينا فتبكينا، ورُغم ذلك يظل أغلبنا وفيًّا في أداء مناسك الحج والطواف حول أوجاعنا. فلا نتخلص منها ولا تتركنا هي نمضي بدون حمل أوزارها، أينما ارتحلنا تسافر معنا وأينما سكنا تسكننا وتقيم فينا. فقاعدتها تنص على أنه كلما حاول عقلك جاهدًا نسيانها ستعمل على تقوية أواصر رسوخها وضرب أوتادها عميقا فما العمل إذا؟ سمعت شيخًا يقول في مفاهيم الطاعات أو ما شابه كلمة هي بمثابة جملة تقول \”اعكسها\”، اعكس مفهومها لديك فبدلًا من أن تمتص طاقتك فتضعفك اضعفها أنت بأخذ عظة منها، فتتعلم منها أن تسعد بأن لحظات جميلة ولو قليلة مرت عليك منها. نعم اعكسها فينقلب السحر على الساحر، لن تختفي كلها فهي كآثار الحروق لن تختفي بأكملها ولكن ستختفي ملامحها تدريجيا ولن يبقى إلا آثار حرقها في قلبك، ستترك ندبة جميلة في ذاكرتك، ستكون أشبه بليلة مرت في نهاية صيفية، جميلة ورقيقة لكنها موجعة بلفحة حرارتها فينا. اتركها ترتحل، حل عقالها ولا تجعلها مطافًا يوهن العقل ويضعف القلب، لا تجعلها ككرسي يهتز جيئة وذهابًا، اغفر لها ودعها تذهب بعيدا عنك، واقطع وشوشات الرياح فلا تجعلها تبلغك. اترك شاهد ذكراك في مقبرة الأيام، ولا تكن يا هذا ذاكرة باتجاهين.