بقلم: على رضوان حميد
منسق هيئة خبراء الانساب والدراسات القبلية
بين هدير الماء المنكسر عند سدِّ مأرب، وهمس النيل وهو يفتح ذراعيه للقادمين من الجنوب البعيد، بدأت الحكاية. حكاية قبائل حملت جذورَها فوق ظهور الريح، وسارت بتاريخها من جبال اليمن إلى ضفاف مصر، لا هروبًا من أرضٍ ضاقت، بل بحثًا عن قدرٍ كُتب أن يُستكمل على ضفاف النهر الخالد. وبين انهيار سدٍّ كان شاهدًا على مجدٍ قديم، وقيام حضارة احتوت الوافدين وصهرتهم في نسيجها، تشكّلت رحلة إنسانية فريدة، امتزج فيها الترحال بالإيمان، والدم بالأرض، فصارت الهجرة تاريخًا، وصار الاستقرار هوية. هذه الصفحات تحاول أن تفتح نافذة على تلك المسيرة، لتروي كيف عبرت القبائل اليمنية الزمن والجغرافيا، حتى استقرت بين دلتا النيل وصعيده، شاهدةً على أن الجذور قد تمتد، لكنها لا تنقطع.
أتت القبائل اليمنية إلى مصر عبر هجرات متباعدة ومتعددة، حدث ذلك بعد انهيار سد مأرب سنة (١٥٠ ق.م)، وحان بها الاستقرار حول حوض النيل في الدلتا، ثم تعددت وكثرت إبان الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي.
لذا شاركت هذه القبائل مع جيش عمرو بن العاص، وشاركت أيضًا هذه القبائل في تأسيس وتخطيط الفسطاط، ثم توالت بعدها الهجرات المتعددة في العصر الأموي لتضيف وجهًا عربيًا لمصر.
شرفت هذه القبائل قدومًا إلى محافظات الدلتا الثلاث: الشرقية، أو كما تُسمى بوابة مصر الشرقية، والغربية، والبحيرة، وخاصة الشرقية، فهي من أوائل البلاد التي استوطنت بها القبائل العربية الآتية من اليمن والجزيرة العربية مرورًا بسيناء، ثم الشرقية والغربية والبحيرة. أتت هذه القبائل أصيلة المنبع، وامتدت فروعها وعائلاتها إلى الصعيد، وخاصة الصعيد الأعلى، حيث الصعود بدأ يتم من دلتا مصر.
لذا كان علينا توضيح هذه الجوانب التاريخية والترحال الجغرافي لهذه القبائل ودورها في صعيد مصر.
كما أوجب علينا أن نكون على حيطة وحذر عند توضيح التنصيص الجغرافي لاستقرار القبائل اليمنية في مصر، وبالتحديد في الدلتا بالشرقية التي تُسمى عاصمة القبائل العربية في الوجود البحري.
كما كانت لهم ملاذ من حيث المواطنة منذ دخول الإسلام، وكانت القبائل اليمنية تسيطر على الدلتا الشرقية والغربية والبحيرة، بل وعلى ربوع مصر في عهد خلافة (هشام بن عبد الملك).
كما نزلت في هذه المنطقة العديد من القبائل، منها (القيسية) و(العدنانية) بالشرقية، حتى وصل عددهم (١٥٠٠) أسرة من العدنانية والقيسية تحديدًا في منطقة بلبيس، ولذلك نجد أقدم جبانة للقبائل العربية في مصر في هذه المنطقة بالشرقية، ويليها جبانة أولاد يحيى بسوهاج. ثم ازدادت أعدادهم وتكاثروا في ولاية (الحوثرة بن سهيل) الذي كان واليًا لمصر سنة (١٢٨ هـ) حتى سنة (١٥٣ هـ)، حينها تم أول استعداد الأنفس حتى بلغ عددهم في هذه الحقبة الزمنية (٥٢٠٠) أسرة، منها الكبير والصغير، بينهم وبين اليمنيين القحطانيين، حتى يتم التوازن في هذه المنطقة الجغرافية وبين العنصرين، لذا أمرهم بالزراعة، فكانت القبائل القيسية هي أول القبائل التي مارست الزراعة بالشرقية في هذه الحقبة الزمنية، هكذا تشكلت القبائل العربية.
كما كان اهتمام الولاة بهذه القبائل وتوزيعتهم إلى صعيد مصر، لذلك تم مزج وذوبان هذه القبائل بالمجتمع المصري في باقي المحافظات من الدلتا حتى الصعيد الأعلى، ونجاحهم في الزراعة واستقرارهم في مختلف المدن والقرى، حتى جاءت أعداد (١٨٨٣م) ليتم التعرف على حصر القبائل البدوية ﴿العربان﴾ المقيمين في الشرقية، حتى بلغ عددهم (٢٣) قبيلة بدوية. والمقصود هنا من الإحصاء للعربان هو جمع أعداد القبائل البدوية، وليس كل القبائل المستقرة في الدلتا.
ولعلنا نذكر هذه القبائل عند نزول صلاح الدين الأيوبي لأول مرة في مصر لمحاربة الصليبيين، وكان برفقته عمه (أسد الدين شيركوه)، وعندما وصل صحراء الشرقية قال لعمه: هنا توجد (عرب كنانة)، ولو علموا بوجودنا لأعانونا وأمدونا بالمؤن والعتاد. فعندما بدأت الحرب تمت العسكرة في صحراء بلبيس، وبه جيش الشام الذي أتى مع صلاح الدين الأيوبي، وتمت السيطرة وامتزجت القبائل بالشرقية، وكان ذلك سنة (٥٦٤ هـ). ومن المعروف عن صلاح الدين معرفته التامة بالقبائل ونسبها وتاريخ هجرتها، لذلك سميت مدن وقرى الشرقية والغربية والبحيرة بأسماء القبائل العربية وكونها وعشائرها.
كما كان هذا ينطبق أيضًا على مدن وقرى الصعيد وعائلاتها، لأن هناك امتدادًا وثيقًا بين القبائل في الشرقية وما نزح منها إلى الصعيد، امتداد عصب ونسب.
وكذلك اختار بطون الأشراف للإقامة بها، كما هو في صعيد مصر. هكذا كانت الهجرات القديمة، وهذا هو السبب الذي ربط أهل الصعيد بأهل الشرقية والغربية والبحيرة، ولذلك تجد بينهم المودة والمصاهرة والنسب، رغم بعد المسافات الشاسعة بينهم، إلا أنهم ينتمون إلى أصول واحدة بلا منازع، وكما هو مدون في المراجع ومدون في الوثائق الخاصة بهذه القبائل المهاجرة، وخاصة هجرة القبائل اليمنية إلى مصر.



