كان الصباح يميل إلى ذهبٍ ناعم حين دخلت نجاة الصغيرة أبواب العاصمة الإدارية الجديدة. بدت وكأنها تسير بين زمنين؛ واحد عرف صوتها وهو يملأ السماء عشقًا، وآخر ينتظر أن يستقبل خطواتها بشغف طفلٍ يسمع حكايةً لأول مرة.
لم تكن الزيارة حدثًا عابرًا… كانت عودة صامتة لفنانة اعتادت أن تهب العالم صوتًا لا يعرف الضجيج.

أول المشهد… مدينة الثقافة والفنون
عبرت نجاة الممر الواسع المؤدي إلى المسرح الكبير، فارتفع في الذاكرة صوتها القديم: “أيظن”… كأنه يتردد من الجدران الرخامية.
استقبلها المهندس خالد عباس بابتسامة تقدير يعرفها من يدرك أن أمامه تاريخًا لا يتكرر، بينما كان الكاتب أحمد المسلماني يرافقها بخطوات هادئة كمن يحرس ذاكرة وطن، وانضم إليهم اللواء أسامة عبد العزيز، يفتح لها الأبواب كأنما يهيئ لموكبٍ من الضوء.
وقفت نجاة في منتصف المسرح الكبير؛ مساحة فارغة لكنها ممتلئة بكل ما لم يُقَل.
تأملت المقاعد، الأضواء، خشبة المسرح… وكأنها تستمع إلى صدى جمهورٍ قديم يهتف باسمها.
لم تتحدث كثيرًا، لكن نظرة واحدة منها قالت كل شيء:
الفن… ما زال قادرًا على أن يُولَد من جديد.
—
ثاني المشهد… الهيئة الوطنية للإعلام
بعد الجولة، توجّهت إلى مقر الهيئة الوطنية للإعلام.
كان في استقبالها أحمد المسلماني مرة أخرى، هذه المرة ليس بصفته مسؤولًا، بل ككاتبٍ يُدرك أن أمامه امرأة صنعت فصلًا كاملًا من وجدان العرب.
دار بينهما حديث عن الفنون، عن المستقبل، عن العاصمة الجديدة التي تفتح ذراعيها لمشروعات ثقافية تنتظر أن تتنفس.
كانت نجاة تصغي بعمق، بعينٍ تعرف أن الثقافة ليست حكاية يوم، بل نهر طويل يبدأ من الأغنية وقد يصل إلى حضارة.
—
ومضة من الماضي… يمرّ أمامها كفيلم
لم تكن الزيارة مجرد جولة رسمية؛ كانت رحلة داخل روحها.
هي ذاتها الطفلة التي غنّت أمام العمالقة…
هي التي جعلت كلمات نزار قباني تبكي وتبتسم بصوتها،
والتي منحت كامل الشناوي قلبًا جديدًا،
وجعلت لحن محمد عبد الوهاب يلمع كالشمس…
هي التي كتب معها بليغ حمدي لحظاتٍ تعجز الذاكرة عن نسيانها.
أغانيها تتقدّم معها أينما ذهبت:
ساعة ما بشوفك… أنا بستناك… أما براوة…
ليست مجرد أغانٍ، بل مفاتيح لزمنٍ كان فيه الحب أكثر رهافة، والفن أكثر نقاء.
—
الختام… لقاء بين صمت اليوم وصوت الأمس
رغم أنها اعتزلت منذ أواخر التسعينيات، إلا أن حضورها في العاصمة الجديدة بدا كعودة نسمة قديمة يعرفها القلب.
لم تأتِ لتغني…
جاءت لتذكّر الجميع بأن الفن الأصيل لا يموت، وبأن الصوت الذي عاش في القلوب لا يغادرها أبدًا.
خرجت نجاة من أبواب الهيئة بنفس الهدوء الذي دخلت به،
لكن شيئًا في المكان تغيّر…
وكأن العاصمة الجديدة اكتسبت نغمة إضافية،
وطنينًا خفيفًا يشبه همسًا موسيقيًا يقول:
ما دام في مصر فن… وفي الفن نجاة… فالصدى لا ينطفئ.



