الجمعة, ديسمبر 19, 2025
spot_imgspot_imgspot_imgspot_img
الرئيسيةرأىد. أميرة المهدى تكتب| حين يطرق التوحّد أبواب الأمومة

د. أميرة المهدى تكتب| حين يطرق التوحّد أبواب الأمومة

لا يطرق التوحّد الأبواب بصخب، ولا يدخل البيوت معلنًا عن نفسه، بل يتسلّل في هدوءٍ مربك، ويستقرّ في تفاصيل الحياة دون أن يطلب إذنًا. يغيّر الإيقاع، ويعيد ترتيب الأحلام، ويضع الأمومة أمام مرآة جديدة لا تشبه ما عُرف من قبل. هناك، حيث تتقاطع الدهشة مع الخوف، وتولد الأسئلة من رحم الصمت، تبدأ حكاية مختلفة؛ حكاية أمّ تمشي بقلبها طريقًا لم تختره، لكنها آمنت به، وتعلّمت أن تصنع من الصبر لغة، ومن الحب جسرًا يصل إلى طفل يرى العالم بطريقة أخرى.

ليس التوحّد عدوًا يُرى، ولا خصمًا يمكن الإمساك به، بل تجربة إنسانية معقّدة، تدخل البيوت في صمت، وتغيّر تفاصيل الحياة دون استئذان. يأتي بلا تعريف واضح، ولا تعليمات جاهزة، ويترك الأهل، ولا سيما الأمهات، أمام أسئلة أكبر من الإجابات: من أنت؟ ولماذا اخترت طفلنا؟ وكيف نصل إليه من خلالك؟

أنا أمّ لطفل من طيف التوحّد.
أمّ لم تختر هذه الرحلة، لكنها اختيرت لها. حملت طفلها تسعة أشهر، وانتظرته قلبًا نابضًا بالحياة، ثم وجدت نفسها أمام أمومة من نوع آخر؛ أمومة تحتاج صبرًا مضاعفًا، وفهمًا أعمق، وإيمانًا لا يتزعزع. أمومة لا تُقاس بعدد الكلمات المنطوقة، بل بعمق التواصل الصامت، ولا تُقاس بالإنجازات الظاهرة، بل بالخطوات الصغيرة التي تُصنع بحب.

في بدايات الطريق، تسكن الحيرة القلب.
لماذا يجلس الطفل وحيدًا؟ لماذا يضحك أو يبكي دون سبب مفهوم؟ لماذا يخاف من أشياء لا يراها الآخرون؟ ولماذا يبدو العالم بالنسبة له مكانًا صاخبًا ومربكًا؟ ومع هذه الأسئلة، تأتي نظرات المجتمع، بين دهشة غير مفهومة، وشفقة مؤلمة، وأحكام جاهزة تفتقر إلى المعرفة. وهنا، تقف الأم في المنتصف؛ تحمل طفلها بيد، وتواجه العالم باليد الأخرى.

لكن الإيمان يعلّمنا أن كل ابتلاء يحمل في داخله رسالة، وكل طريق شاق يخفي حكمة.
لم يكن التوحّد عقابًا، بل مسؤولية. لم يكن حرمانًا، بل اختبارًا للرحمة والصبر، وفرصة لاكتشاف معانٍ جديدة للحب غير المشروط. فالأم في هذه الرحلة لا تفقد ابنها، بل تتعلّم كيف تصل إليه بطريقة مختلفة، كيف تفرح بتقدّم بسيط، وكيف تحوّل التعب إلى طاقة أمل.

إن أمّ طفل التوحّد ليست ضعيفة، وإن بدت متعبة.
هي امرأة تُعيد بناء نفسها كل يوم، وتتعلم، وتبحث، وتقاوم اليأس بالدعاء، وتستمد قوتها من يقين راسخ بأن الله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها. تبني حول طفلها حصنًا من الفهم والاحتواء، لا ليعزله عن العالم، بل ليحميه حتى يصبح العالم أكثر رحمة واتساعًا له.

هذا المقال ليس صرخة غضب، بل دعوة وعي.
دعوة لأن ننظر إلى التوحّد بإنسانية قبل الأحكام، وبعلم قبل الخوف، وبإيمان يفتح باب الرجاء. فخلف كل طفل من طيف التوحّد أمّ تقاتل بصمت، وأسرة تتعلّم الحب من جديد، وقصة تستحق أن تُروى باحترام.

فمن هو التوحّد؟
قد لا يكون له جواب واحد، لكنه بالتأكيد ليس نهاية الطريق، بل بداية رحلة مختلفة… رحلة تُصاغ بالصبر، وتُحفظ بالإيمان، وتُثمر إنسانًا أكثر عمقًا ورحمة.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات