الأربعاء, أكتوبر 29, 2025
spot_imgspot_imgspot_imgspot_img
الرئيسيةمقالاتد. آية الهنداوي تكتب: الضمير في غرفة الإنعاش

د. آية الهنداوي تكتب: الضمير في غرفة الإنعاش

alekhbary.com bwUmZO0Y

في زمنٍ صارت فيه المصلحةُ هي القانون، والربحُ هو المبدأ والأنانيةُ هي القاعدة يُرقد الضمير الإنساني على سريرٍ أبيض في غرفة الإنعاش يتنفس بأجهزةٍ اصطناعية بعد أن فقد القدرة على الحياة وحده.

لم يمت بعد، لكنه لا يعيش أيضًا. يفتح عينيه أحيانًا حين تلوّح له يدُ الخيرثم يغفو طويلًا حين تُصفَّق الأنانيةُ أو يُكرَّم الفساد. كأنّ نبضه مرتبط بآخر بقيةٍ من إنسانيةٍ نحاول أن نحافظ عليها وسط هذا الزحام الصاخب من المصالح والظلم والصمت.

الضمير اليوم لا يُصاب بسكتةٍ واحدة، بل يُنزَف كلّ يومٍ ببطء؛ حين يسكت المثقف عن الحق وحين يبيع الموظف أمانته، وحين يتنازل القاضي عن عدله وحين يتجمّل الكاذب بثوب الواعظ. كلُّ هذه الجروح الصغيرة صنعت من الضمير مريضًا مزمنًا يعيش على الأجهزة.

نحن نعيش عصرًا تتساقط فيه القيم كما تتساقط الأوراق في خريفٍ طويل. يُكافأ المخادع ويُتهم الصادق بالغباء ويُصفَّق للمنافق لأنه “ذكي”.
هكذا أصبح الضمير غريبًا بيننا يتساءل في صمت من سرق الهواء النقي من هذه المدينة؟

في غرفة الإنعاش يقف الطبيب عاجزًا والممرضة تبكي، والعالم يواصل صخبه.
لا أحد يسأل عن الضمير ولا أحد يزوره. فقط قلةٌ قليلة ما زالت تضع يدها على قلبه وتتمتم “لا تمت فما زلنا بحاجة إليك”.

إنّ إنقاذ الضمير لا يحتاج إلى معجزةٍ سماوية، بل إلى قرارٍ بسيطٍ من كلّ إنسان أن يكون صادقًا مع نفسه أولًا. أن يقول “لا” حين يرى ظلمًا، وأن يختار الصواب وإن خسر بعض المكاسب. فالحياة بلا ضمير ليست سوى جثةٍ متأنقةٍ تُعرض في واجهات المدن.

في زمنٍ تُصنع فيه الأكاذيب في مختبرات الإعلام ويُعاد تشكيل الوعي وفق رغبات السوق صار الضمير آخر الأصوات التي لا تُسمع. الكل يتحدث لكن أحدًا لا يصغي. تتكاثر الشعارات عن الحرية والعدالة والإنسان، لكنّ الممارسة اليومية تكشف أنّ الكلمات فقدت معناها وأنّ الضمير نفسه صار يُستدعى فقط في الخطب لا في الأفعال. حتى الألم صار يُقاس بعدد المشاهدات، لا بعدد الأرواح.

حين يصمت الضمير تموت العدالة، وحين تموت العدالة يختلّ الكون كله.
كما أن الحضارات لا تُبنى بالقوانين وحدها، بل بميزانٍ خفيّ في داخل الإنسان يحفظه من السقوط وحين يُكسر ذلك الميزان تُصبح الشعوب مهما بلغت من التقدّم بلا روح.
قد تُضيء المدن لكنّ العتمة تسكن القلوب.

لقد علّمنا التاريخ أن الأمم لا تسقط حين يُهزم جندها، بل حين يُهزم ضميرها.
فكلُّ فسادٍ يبدأ من تهاونٍ صغير في الحق وكلُّ طغيانٍ يولد من صمتٍ طويل أمام خطأٍ واحد. نحن لا نخسر أوطاننا فجأة، بل نخسرها كل يوم حين نُبرّر الظلم ونُصفّق للكذب ونتواطأ بالصمت.

إنّ الضمير الإنساني اليوم لا يحتاج إلى خطابٍ جديد، بل إلى صدمةٍ تُوقظه. أن نعيد تعريف الشرف لا بوصفه شعارًا إجتماعيًا، بل إلتزامًا أخلاقيًا في الموقف والفعل والكلمة. أن ندرك أن الإنقاذ لا يبدأ من الحكومات بل من كل إنسانٍ يرفض أن يكون جزءًا من القبح.

ربما ما زال في صدر الضمير نبضٌ خافت ينتظر لمسة صدقٍ تُعيده إلى الحياة. فلنكن نحن تلك اللمسة لأن العالم الذي يموت فيه الضمير لن يبقى فيه أحدٌ حيًا حقًا.

وأؤكد من خلال ما سبق، أن الضمير ليس قضية فردٍ أو خُلقًا شخصيًا فحسب، بل هو العمود الفقري لكلّ ما حولنا.
هو في السياسة عدل، وفي الإعلام صدق وفي الإقتصاد أمانة وفي التعليم رسالة وفي الدين رحمة، وفي الفن مسؤولية.
إذا انهار الضمير انهارت كلّ هذه البنى مهما ارتفعت شعاراتها.
فلا نهضة بلا ضمير ولا حرية بلا ضمير ولا عدالة بلا ضمير.
إنه النبض الخفيّ الذي يُبقي العالم إنسانيًّا مهما تغيّر وجهه، وحين يصمت تمامًا تصبح الحياة مجرّد حركة بلا روح.

فلنُنعش ضمائرنا قبل أن تُغلق غرفة الإنعاش إلى الأبد.


مدرس بكلية الآداب ـ جامعة المنصورة.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات