منذ أكثر من سبعة عقود والعالم يراقب كيانًا وُلد على حساب شعب آخر ولا يزال حتى اليوم يتصرف وكأنه فوق القانون الدولي، وفوق الأخلاق وفوق كل الأعراف الإنسانية.
إسرائيل لم تكن يومًا دولة طبيعية، بل مشروع إستيطاني قائم على نزع الأرض من أهلها وصناعة هوية زائفة لشعب بلا أرض ولا جذور حقيقية ثم تسويق هذه الهوية للعالم عبر القوة والدعاية.
وأوضح أن أخطر ما في المشروع الصهيوني أنه حاول منذ البداية أن يخلق لشعب متخيل هوية لم يعرفها التاريخ، وأن ينزع عن الفلسطينيين هويتهم الأصيلة المتجذرة في الأرض. هكذا وُلدت إسرائيل كيان يبحث عن ماضٍ لم يكن له ويختلق لنفسه تاريخًا مزيفًا، بينما الحقيقة واضحة أمام الجميع؛ إنها دولة قامت على التهجير القسري والتطهير العرقي وإنكار الآخر.
لقد ارتكبت إسرائيل منذ اللحظة الأولى أبشع الجرائم الإنسانية من مذابح القرى الفلسطينية إلى مصادرة الأرض ومحو الذاكرة وكأنها تؤمن بأن الكذب يمكن أن يصنع وطنًا وبأن القوة يمكن أن تخلّد الباطل.
اليوم، وبعد كل الجرائم التي ترتكبها من قتل وتشريد وهدم لم يعد الصمت ممكنًا. إسرائيل يجب أن تُلزم حدّها لا لأن الفلسطينيين وحدهم يدفعون الثمن، بل لأن استقرار المنطقة والعالم بات مهددًا من كيان يصر على تجاوز كل الخطوط الحمراء. عشرات القرارات الأممية صدرت ضدها، ومع ذلك بقيت حبرًا على ورق لأن هناك من أراد لإسرائيل أن تكون الإستثناء الوحيد في العالم، ولتظل فوق المحاسبة وكأنها محصنة من القانون الدولي.
العالم الذي سمح منذ البداية بقيام هذا المشروع الإستعماري يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، لكنه لا يستطيع أن يتهرب من الحساب إلى الأبد. كل يوم يتأخر فيه المجتمع الدولي عن ردع إسرائيل يعني مزيدًا من الدماء ومزيدًا من زعزعة الإستقرار. الصمت لم يعد موقفًا محايدًا، بل مشاركة فعلية في الجريمة وتواطؤًا معلنًا مع المعتدي ضد الضحية.
إسرائيل ليست سوى كيان هشّ يتغذى على الأزمات والحروب والدعم الخارجي. فإذا جُرّد من هذه المظلة فلن يبقى أمامه سوى مواجهة الحقيقة أنه كيان طارئ، وأن جذور الحق لا تُقتلع وأن الشعوب صاحبة الأرض والتاريخ قادرة على البقاء مهما طال الزمن. فالقوة العسكرية لا تصنع شرعية والدعاية لا تُنبت هوية وكل ما هو مصطنع مآله الزوال مهما طال أمده.
لقد قامت إسرائيل أصلًا على تناقض صارخ بين ما ترفعه من شعارات وما تمارسه من سياسات. فهي تزعم الديمقراطية بينما تمارس التمييز العنصري بأبشع صوره وتدّعي احترام حقوق الإنسان بينما تسجل في تاريخها أطول إحتلال عسكري في العصر الحديث وتتصدر خطاب السلام بينما تصنع الحروب في كل زاوية من المنطقة. هذا التناقض لم يعد يخفى على أحد حتى داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه الذي بات يعاني من الإنقسام والصراع الداخلي حول الهوية والمستقبل ويعيش في حالة قلق دائم من زواله.
ولا يمكن إغفال الدور الغربي في صناعة هذا الإستثناء التاريخي، فمنذ اللحظة الأولى لتأسيس إسرائيل قُدمت لها الحماية السياسية والدعم المالي والعسكري بلا حدود. لقد رُسمت صورة زائفة لكيان صغير محاصر يستحق التعاطف، بينما الحقيقة أنه كان دائمًا الطرف المعتدي المدجج بأحدث الأسلحة. لولا هذا الدعم الخارجي السخي لما صمدت إسرائيل يومًا واحدًا أمام إرادة الشعوب في المنطقة. لكن التاريخ علمنا أن الإحتلال لا يستمر إلى الأبد، وأن القوة الخارجية مهما طال دعمها لا تستطيع أن تمنح الشرعية لما هو باطل في جوهره.
إن استمرار إسرائيل على هذا النهج لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يفتح الباب أمام مزيد من التطرف والفوضى في المنطقة بأسرها. فالاحتلال يولّد الغضب والغضب يولّد المقاومة، والمقاومة تتحول إلى صراع مفتوح بلا نهاية. هكذا تبقى المنطقة أسيرة دوامة لا تنتهي من العنف وعدم الاستقرار، والسعي لإنشاء مشروع استعماري يرفض أن يلتزم بالحدود.
لقد دفعت الشعوب العربية ثمنًا باهظًا من دماءها واقتصادها ومستقبلها بسبب هذا الكيان المصطنع الذي ظل لعقود طويلة سببًا مباشرًا في إجهاض أي محاولة لبناء استقرار حقيقي في المنطقة.
لقد آن الأوان أن يسمع العالم هذه الحقيقة بصوت واضح إسرائيل يجب أن تُلزم حدّها، وأن تدرك أنها كيان مؤقت مهما تزيّنت بادعاءات الشرعية. آن أوان أن يتوقف التغاضي عن جرائمها وأن تتحول الشعارات إلى أفعال والقوانين إلى آليات ردع حقيقية. لأن استمرار هذا الكيان بلا محاسبة ليس خطرًا على الفلسطينيين وحدهم، بل تهديدًا للسلام العالمي برمته.
إسرائيل اليوم لم تعد تخدع أحدًا، فهي كيان استيطاني مؤقت يعيش على الدعم الخارجي ويعتمد على تزوير التاريخ ويستمد قوته من غياب العدالة. لكن العدالة لا تموت والحق لا يُمحى والاحتلال لا يمكن أن يُخلّد.
مدرس الدراسات اليهودية
كلية الآداب – جامعة المنصورة.