حين كانت هناك كان النيل يُغنّي وفى حضرتها تتواءم أرواح الشعوب العربية وجدانا واحدا يسمع نغما ساحرا وهبه رب السماء لامرأة استثنائية فى زمن كان يتزين به، “الإخبارى” تلقى الضوء على صرح من صروح الغناء على صفحة النيل، حكاية فيلا أم كلثوم في الزمالك.
كانت فيلا أم كلثوم كوكب الشرق على ضفاف النيل بالزمالك، في شارع أبو الفدا، قطعة من الزمن الجميل؛ بيتًا تنساب منه الألحان كما ينساب النيل نفسه. جدرانه العتيقة شهدت عقودًا من الفن والبهاء، وأروِقته كانت تضج بالحياة، كأنها صدى لصوت أم كلثوم وهي تشدو في الليالي الطويلة. هناك، كان المارّون يتوقفون لحظة، وكأنهم يستنشقون عبق أنغامها المنبعثة من الداخل، فيزداد المكان ألقًا وتزداد هي حضورًا في القلوب.
عاشت أم كلثوم في هذه الفيلا الفاخرة التي كانت بحقّ مرآةً لمجدها وصوتها، ثلاث طبقات من الذكريات والخصوصية والحميمية. خصصت الطابق الأول لأقاربها الذين كانوا يأتون من قريتها فيقيمون طويلاً، والطابق الثاني للضيوف بما فيه من غرفة طعام وصالون وصالة للبروفات الغنائية، أمّا الطابق الثالث فكان عالمها الخاص: حجرتان للنوم، إحداهما للشتاء وأخرى للصيف، ومكتب صغير كانت تُحضّر فيه جلساتها وتُدوّن فيه خواطرها الفنية لتعرضها لاحقًا على ملحنيها وكبار شعرائها.
لكن الزمن مضى، وانتهى عصر الفيلا كما تنتهي مقاطع أغنية قديمة. بعد رحيلها بيعت الفيلا أولًا لرجل أعمال سعودي بمليون جنيه، ثم في الثمانينات انتقلت إلى رجل أعمال مصري، فهُدمت وقام مكانها برج سكني يعلوه فندق يحمل اسمها تخليدًا لذكراها. لم يبق من الفيلا إلا ما يحمله الشارع من روحها وما يخلّده تمثالها الشامخ في بدايته، شاهدًا على زمن كانت فيه أم كلثوم أكثر من صوت؛ كانت وطنًا من الطرب وبيتًا للأصالة.
هكذا اختفت الجدران، لكن بقيت روح كوكب الشرق تحلّق فوق المكان، حاضرة في أذهان الجماهير، تُذكّرهم أنّ الأصوات العظيمة لا تُهدم مهما تغيّرت الواجهات.
