الجمعة, أكتوبر 17, 2025
spot_imgspot_imgspot_imgspot_img
الرئيسيةفنونبدر نوفل فنان برتبة لواء |عشق المسرح وابتسم للضوء حتى الوداع

بدر نوفل فنان برتبة لواء |عشق المسرح وابتسم للضوء حتى الوداع

في سماء الفن، حيث لا تغيب الذاكرة، يبقى بدر نوفل أحد أولئك الذين تركوا على الخشبة بصمةً لا تشبه أحدًا. لم يكن مجرد فنانٍ عابرٍ بين أضواء الكاميرات، بل كان فارسًا قادمًا من ميدانٍ آخر… ميدان الانضباط والنظام. رجلٌ حمل على كتفيه رتبة لواء، وعلى قلبه حلمًا لا يليق إلا بعاشقٍ أصيل للمسرح والسينما.

بدر نوفل فنان برتبة لواء |عشق المسرح وابتسم للضوء حتى الوداع
بدر نوفل فنان برتبة لواء |عشق المسرح وابتسم للضوء حتى الوداع

تخرّج من كلية الشرطة، ووقف يومًا في صفوف الضباط، لكنه كان يسمع نداءً آخر… نداء الخشبة. التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليصنع مسارًا فريدًا جمع فيه بين الزي الرسمي والعباءة المسرحية.

خمسةٌ وعشرون عامًا مرّت على رحيله، لكن بدر نوفل لا يزال حاضرًا في الذاكرة… في ملامح المحامي «خليفة خلف الله خلف خلاف»، وفي ضحكات الجمهور التي لم تخفت، وفي جلال حضوره على الشاشة، كما لو أن الزمن انحنى احترامًا له.

بعد خمسةٍ وعشرين عامًا من الغياب…
لا تزال ملامحه تطلّ من شاشات الزمن كما لو كانت شاشة عرض سحرية لا تنطفئ، كأنّه لم يرحل يومًا، بل اختبأ في زاويةٍ من الضوء ينتظر أن يُرفع الستار من جديد. كان يمشي بخطواتٍ ثابتة كضابطٍ يعرف طريقه، ويبتسم كفنانٍ ولد من رحم الخيال. لم يكن رجلًا عاديًا… بل أسطورة من لحمٍ ووهجٍ وعطر مسرح.

تخرّج من كلية الشرطة، وكان يُفترض أن يُصبح أحد حُرّاس النظام الصارمين، لكن قلبه كان يعزف لحنًا مختلفًا. خلف بزّته العسكرية، كان هناك قلبٌ يشتعل بشغف المسرح، وروحٌ تبحث عن ضوء الكاميرا كما يبحث العاشق عن حبيبته بين الزحام. كان الليل بالنسبة له خشبة مسرحٍ صامتة، والنهار ساحة نظام… حتى جمع بينهما في سيمفونيةٍ نادرة، فصار الضابط الذي يزرع الأمن… والفنان الذي يزرع الحلم.

في قاعات كلية الشرطة، كان يدرّس مادة “التنكر” كما لو كان يعزف سيمفونية سرّية. يعلّم زملاءه كيف يختبئون خلف الأقنعة، بينما هو وحده لم يختبئ يومًا خلف شيء، بل واجه العالم بوجهين صادقين: وجه القانون… ووجه الفن.
وحين زارت أم كلثوم الكلية في الستينيات، كان ضمن الوفد الذي استقبلها. يروي من عرفه أنه وقف في الصف الأمامي، يبتسم كما لو أنّه طفلٌ يلمح ملاكًا للمرة الأولى. كانت تلك اللحظة بداية العهد بينه وبين الضوء.

ترقّى حتى صار لواءً، لكن قلبه لم يتخلَّ عن المسرح… كان يعرف أن الرتبة تُعلّق على الكتف، لكن الفن يُعلّق على الروح.

كان ظهوره الأول في فيلم «عيون سهرانة» عام ١٩٥٦، ومن هناك بدأ العبور من البوابة العسكرية إلى عالم الأحلام. لم يكن مجرد ممثل، بل كان كمن يدخل كل دورٍ كما يدخل فارسٌ إلى معركةٍ مقدّسة. توالت أعماله كأنها محطات في حكاية خالدة:
«طريق الأمل»، «بورسعيد»، «الفتوة»، «هذا هو الحب»، «سر طاقية الإخفاء»، «بين الأطلال»، «الرجل الثاني»، «الشموع السوداء»، «لا وقت للحب»، «زقاق المدق»، «الناصر صلاح الدين»، «رابعة العدوية»، «الشريدة»، «البرئ»، «الحب فوق هضبة الهرم»، «التخشيبة»، «إستغاثة»، «الحكم آخر الجلسة»، «الغول»، «حب في الزنزانة»…
كل مشهدٍ كان قطعة من روحه، وكل نظرةٍ كانت حكاية.

وفي الدراما التلفزيونية، صار صوته أشبه بوشوشة مألوفة في البيوت:
«أحلام الفتى الطائر»، «الأيام»، «صيام صيام»، «أديب»، «زينب والعرش»، «النديم»، «أمير الشعراء»، «الرجل والحصان»، «أهلاً بالسكان»، «رأفت الهجان»، «ضمير أبلة حكمت»…
كان حين يظهر على الشاشة لا يمثل… بل يُعيد ترتيب نبض المشهد.

أما على خشبة المسرح، فقد كان سيد الحضور. كان الضحك يشتعل من مجرد التفاتة منه، وكانت القاعة تتنفس معه الإيقاع نفسه.
من ينسى الأستاذ خليفة خلف الله خلف خلاف المحامي في «شاهد ماشفش حاجة» مع عادل إمام؟
ومن لا يتذكر الأستاذ فتح الباب في «سك على بناتك» إلى جوار فؤاد المهندس وشيريهان؟
أو الخال مغاوري في «الواد سيد الشغال»؟
كانت شخصياته تسكن الذاكرة كما تسكن الأغنية الجميلة الأذن.

أكثر من مئة عملٍ في السينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، تنقّل فيها بين الكوميديا والتراجيديا، بين الحكمة والجنون، كأنه يحيا ألف حياةٍ في عمرٍ واحد.

ولأن الفنان الحقيقي لا يكتفي بالأداء… كان يكتب المقالات والقصائد، ينسج من اللغة ما يوازي جمال حضوره على الشاشة. كان موسوعة تمشي على الأرض… كتابًا مفتوحًا من الثقافة والدهشة.

إنه اللواء بدر نوفل الفنان… الرجل الذي جمع بين الزي العسكري وعباءة المسرح، بين النظام والحلم، بين الانضباط وشرارة الجنون الجميل.
خمسةٌ وعشرون عامًا مرّت على رحيله، لكنّ الخيال لا يعترف بالرحيل…
فكلّما اشتعل ضوء مسرح، أو دوّى تصفيق جمهور، أو همست شاشة بذكرى…
عاد صوته من بين الظلال يقول:
«الفن لا يموت… بل يخلّد من أحبوه».

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات