مرة أخرى، يشهر مجلس الأمن عجزه أمام مأساة غزة، فقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض “الفيتو” ضد مشروع قرار دولي يدعو إلى وقف فوري للحرب المستمرة منذ ما يقارب العامين، ليكون هذا هو الفيتو السادس منذ بدء الاجتياح الإسرائيلي للقطاع. حصل القرار على دعم 14 دولة من أصل 15، لكن صوتاً واحداً كان كفيلاً بإجهاض مطلب إنساني عاجل، وكأن حياة الفلسطينيين لا تساوي شيئاً أمام مصالح السياسة الأمريكية.
غطاء أمريكي لحرب الإبادة
ما يجري في غزة لا يمكن وصفه إلا بحرب إبادة: عشرات الآلاف من القتلى، مئات الآلاف من المصابين والمشردين، أحياء سويت بالأرض، ومبانٍ تحولت إلى أنقاض. إسرائيل استخدمت كل أنواع الأسلحة، بما فيها القنابل المحرمة دولياً، ومع ذلك تنجو دائماً من أي إدانة أو محاسبة. السبب بسيط: واشنطن ترفع يدها في مجلس الأمن وتعلن “الفيتو”. هكذا تتحول المأساة الإنسانية إلى مجرد ملف معلق، وتُمنح إسرائيل حصانة لا محدودة.
ترامب والإنكار السياسي
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال مؤتمره الصحفي الأخير مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أعاد تأكيد دعمه لإسرائيل ورفضه الصريح الاعتراف بدولة فلسطينية. هذا الموقف لم يكن مفاجئاً، لكنه يعكس بوضوح أن الإدارة الأمريكية ليست فقط منحازة، بل شريك مباشر في استمرار المأساة، الفيتو هنا ليس أداة دبلوماسية، بل إعلان صريح بأن حياة الفلسطينيين لا تدخل ضمن أولويات واشنطن.
المشكلة أعمق من موقف أمريكي منفرد، فمجلس الأمن نفسه يعاني من خلل بنيوي، إذ تظل قراراته مرهونة بخمسة أعضاء دائمين يمتلكون حق النقض: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، وفرنسا. خطوة واحدة من أي منهم كافية لتعطيل إرادة بقية أعضاء الأمم المتحدة، النتيجة أن العدالة تصبح انتقائية، وتخضع لمصالح الكبار بدلاً من أن تنحاز للمظلومين.
فمنذ عام 1972 وحتى اليوم، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من 80 مرة في قضايا تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، منها عشرات المرات لإفشال قرارات تدين الاستيطان أو تدعو إلى وقف الحرب أو تضمن حقوق الفلسطينيين. هذه الأرقام تكفي لتأكيد أن الفيتو الأمريكي تحول إلى “درع واقٍ” لإسرائيل، تُجهض به أي محاولة لمحاسبتها، بينما يُترك الشعب الفلسطيني وحده يواجه مصيره.
إنسانية ضائعة تحت الأنقاض
المفارقة المؤلمة أن المجتمع الدولي يتحدث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، بينما تُدفن هذه المبادئ تحت أنقاض غزة، كيف يمكن للعالم أن يبرر آلاف القنابل التي سقطت على المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء؟ كيف يمكن تفسير استمرار الحصار والتجويع؟ الجواب موجود في قاعة مجلس الأمن: فيتو أمريكي يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة القتل والتدمير بلا حسيب أو رقيب.
وقد حان الوقت لمراجعة النظام الدولي نفسه،هل يعقل أن يظل مصير البشرية رهن قرار خمس دول فقط؟ هل يُقبل أن تُعطَّل إرادة المجتمع الدولي بأسره من أجل حماية مصالح دولة واحدة أو حليف واحد؟ إصلاح مجلس الأمن لم يعد مطلباً أكاديمياً أو سياسياً، بل ضرورة إنسانية عاجلة، فالعالم لا يستطيع الاستمرار في نظام يمنح الحصانة للجلاد ويضاعف معاناة الضحايا.
إن الفيتو الأمريكي الأخير لم يكن مجرد موقف سياسي، بل وصمة عار جديدة على جبين العدالة الدولية، لقد كشف هشاشة المنظومة الأممية، وأكد أن غزة لن تنجو بقرارات مجلس الأمن ما دامت واشنطن تعتبر نفسها فوق القانون. ستبقى دماء الفلسطينيين شاهداً على ظلم الفيتو