
تأخذنا سورة الذاريات في سياحة روحية عميقة، تمتد من آفاق الكون الرحبة إلى دهاليز النفس، لتمزج بين مشاهد الخلق ومشاهد البعث، وبين مواقف المؤمنين وحيرة الكافرين، وكأنها صوت علوي ينادينا:
“تأمّلوا.. أبصروا.. فكروا بقلوبكم قبل أعينكم.”
البداية بالقسم… وإعلان اليقين المطلق تستهل السورة بأربعة أقسام كونية، تُفتح بها أبواب التأمل على مصراعيها:
الرياح التي تذر التراب، والسحب التي تحمل الأثقال، والسفن التي تمخر العباب بانسياب، والملائكة التي تقسم أمر الله في هذا الكون الواسع.
ومن وراء هذا القسم تأتي الحقيقة القاطعة:
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ.
تمامًا كما يجري الكون بنظام لا يختل، فإن يوم الحساب حقّ، لا مهرب منه ولا تأجيل.
تخبط الكافرين… مقابل ثبات المؤمنين تصف السورة أهل الكفر بأنهم غارقون في التضارب والتهجّم:
مرة يتهمون النبي بالسحر، وأخرى بالشعر، وثالثة بالجنون!
كلام بلا منطق، سببه العناد لا الحجة.
ثم تعرض السورة صورتين متناقضتين بحدة:
– أهل النار، يُلقَى في وجوههم العتاب القاسي:
“ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.”
– وأهل التقوى، أهل السهر والطاعة:
“كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون.”
يقومون الليل، ويغسلون أرواحهم بالاستغفار، ويعطون من أموالهم لمن يستحق، لا رياء ولا انتظار شكر.
وكأن الرسالة تقول: النجاح الروحي لا يُمنح، بل يُنتزع بجهاد مستمر للنفس.
نداء إلى التأمل… في الأرض والسماء والإنسان تدعونا السورة إلى النظر حولنا:
في الأرض دلائل، وفي داخل الإنسان آيات لا تُحصى؛ قلب ينبض، وعقل يفكر، وأعصاب تنقل الحياة.
وفي السماء رزق مكتوب، وتقدير محكم، وأبواب خير لا تُغلق.
من قصص الأنبياء… دروس تُضيء الطريق تأخذنا السورة بعدها عبر تاريخ الأنبياء:
إبراهيم عليه السلام وضيوفه من الملائكة، وبشارته بإسحاق، وإنذار قوم لوط.
لوط وهلاك قومه بالفاحشة.
موسى وفرعون وغرور الملك الذي أغرقه البحر.
عاد وثمود، والريح والصاعقة.
ونوح وصبر السنين الطويلة، ثم الطوفان.
كلها مشاهد تتكرر عبر التاريخ، لتؤكد قانونًا واحدًا:
من كذّب واستكبر هلك، ومن آمن وصدق نجا.
النداء الأعظم… “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ” تأتي الآية كصرخة يقظة:
اهرب إلى الله…
لا إلى الدنيا، ولا إلى وهم القوة، ولا إلى زينة زائلة.
فالطريق واضح، والمعين لا ينضب، والنجاة في اللجوء إليه وحده.
غاية الحياة… عبادة تملأ الوجود “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.”
ليست العبادة طقوسًا فحسب، بل طريقة حياة؛
إخلاص في العمل، صدق في المعاملة، جمال في الأخلاق.
الخاتمة… إنذار لمن لا يعتبر تنتهي السورة بإنذار شديد:
الظالمون لهم نصيب من العذاب، كما كان لمن سبقهم،
ويوم الوعيد قادم، مهما طال الأمن الكاذب أو ظنّوا أنهم ناجون.
الرسالة الجامعة للسورة إنها دعوة إلى اليقظة… إلى الفهم… إلى الاختيار:
بين نور الإيمان وظلمة العناد،
بين طريق النجاة وطريق الهلاك.
سورة الذاريات تقول لنا:
“الدرب واضح… والنتائج معلومة… فاختر مكانك بقلب واعٍ.”



