بقلم : الدكتور أحمد سعيد
هل كان يمكن لك أن تتخيل في يوم من الأيام أن تعيش في مصحة للأمراض النفسية ؟
عن نفسي أتحدث، فلم أتخيل أبداً طوال حياتي أن أعيش في مثل هذا المكان، فليس هناك سبب لمعيشة شخص في مستشفى للأمراض النفسية إلا أن يكون هذا الشخص مريضاً نفسياً، أو أن يكون مثلي أنا ..طبيب مقيم للأمراض النفسية والعصبية في مصحة من أكبر المصحات المتخصصة في هذا المجال من الطب في الشرق الأوسط.
لك أن تتساءل، كيف يمكن لشخص مثلي أن يقضى يومه؟!!
دعوني إذاً أشبع فضولكم وأروي لكم بعض أحداث يوم من أيام عملي المزدحمة، هيا تفضلوا معي ..مرحباً بكم …….
هذا هو القسم الذي أعمل به، قسم الرجال، في هذا السرير كان يرقد المريض الإثيوبي الذي تركته زوجته وأولاده ففوجئ به أهله لا يتحرك!..مستيقظ ويشعر بوجودهم ولكنه لا يستجيب لنداءاتهم!
لا يستجيب أبداً حتى لو حاولت ضربه على وجهه …لا يأكل ولا يشرب حتى أن مثانته انتفخت بالبول لدرجة أنها أوشكت على الانفجار ولم يتأثر بذلك ..حالته من الحالات المثيرة للانتباه والتي نطلق عليها عته كتاتونى …الغريب والمذهل في مثل تلك الحالات أنها تستجيب وبسرعة فائقة للعلاج بالجلسات الكهربائية… تحسن المريض بعد الجلسة الثانية وعاد إلى نشاطه وتفاعله الذي أخبرنا عنا أهله فعاد للحياة بعد أن تعرض للموت الوشيك.
أما هذا فهو مكتبي الذي أقابل فيه المرضى كل يوم ..وعندما أدخل إلى المكتب ..يعود إلى ذاكرتي مشهد المريض الذي جرى مسرعاً نحو الباب وهو يصرخ بصوت عالي ومرعب ” سأقتلها سأقتلها “” منعه مساعدي التمريض من إيذائي بهدوء، كنت سأتعرض للقتل وذلك لأن المريض كان لا يريد أن يبدأ جلسات العلاج الكهربى في اليوم التالي على الرغم من أن حالته تحتاجها بشدة، بدأ في اتهامي بأننى كافرة وبأن الله لا يرضى عنى وأدخلني في نظام تفكيره الخاطئ الناتج عن مرضه ..واللطيف جداً أن هذا المريض قام بعمل مقابلة صحفية معي بعد تحسنه وتعافيه خاصة بمشروع يقوم بعمله في الجامعة وقام بكري على مساعدته في الشفاء ..
أما هذه هناك على المنضدة فهذه الحقيبة الخاصة بإحضار الحالات من المنزل ..وذلك يذكرني بالمريض العربي الذي ذهبت لإحضاره من المطار، والذي كان مخدراً تماماً نتيجة لكمية كبيرة من المهدئ أعطته له والدته على الرغم من أنها طبيبة وتعلم أن هذه الجرعات الكبيرة قد تسبب في قتله فقد تتسبب في إيقاف تنفسه بالإضافة إلى هبوط حاد في دورته الدموية، ولكن الأم بررت ما حدث بأنها كانت خائفة جداً منه حيث كان يظهر عنف شديد جداً تجاهها طوال رحلتهم في الطائرة في الفترات التي كان يفيق فيها من تأثير الدواء، كان معجزة أن يبقى هذا المريض على قيد الحياة وأن تسنح لنا فرصة علاجه ولكنه لا يستطيع مسامحة أمه على فعلتها حتى الآن.
أما هذه الصالة الواسعة فكان فيها حفل عيد الميلاد لمرضى الشهر ..حيث استمتع المرضى بتناول الحلوى وشرب العصائر، كان منهم من هو يتحرك بنشاط زائد وبسرعة فائقة، ومنهم من يجلس مع أصدقاءه الخياليين غير منتبه لما يحدث، ومنهم من يخاف من التجمعات فيختبئ وراء الحائط.
ولكن للأسف انتهى الحفل بنهاية درامية، حيث قام واحد من المرضى بضرب الأخصائية النفسية في أنفها بقبضة يده ..جرى الأطباء نحوها بسرعة لتضميد الجرح وبدأ كل المرضى في الاعتذار لها ..ومن الرائع أنها تقبلت الأمر بمنتهى الكفاءة المهنية مبتسمة وسعيدة لسعادتهم!
كثيراً منكم سيدور في رأسه أن حياتي في مثل هذا المكان مثيرة للعجب والدهشة وخاصة أننى أعمل به نهاراً وأقيم فيه ليلاً، بعضكم سيتهمنى بالجنون والتهور والبعض الآخر سيتوجنى بتاج البطولة!
ولكن الأمر بمنتهى البساطة هو أن هذا عملي الذي أحبه والذي استمتع بممارسته كل يوم وأتعلم منه في كل دقيقة وكل ساعة شيئاً جديداً